/>head> tags سمفونية العمارة.
U3F1ZWV6ZTM4NzI4NTMzMTQzODI4X0ZyZWUyNDQzMzMwNzU5Njc1MA==

سمفونية العمارة.


سـمـفـونـيـة الـعـمـارة

 سمفونية العمارة

في هذا الزمن الذي لا يشبه إلاّ نفسه، نشرت التصاميم الزرقاء من الورق المقوّى وسط أوراش البناء وفوق طاولات المهندسين، وأمام أنظار العمال البناءين الذين تنبعث من عرقهم رائحة السردين والزيتون الأسود. هؤلاء جزء من المد الإسمنتي الذي يكتسح الأراضي، فتنبث من الركام هنا وهناك، عمارات تحتضن عموديا مئات من الشقق التي تضيق وتتسع دون مراعاة التنسيق بين الطّباع والأذواق، وبين الأصالة والحداثة.

لا أحد يشك في أن ساكنة العمارات، يشكلون كشكولا متنوعا وأصنافا بشرية مختلفة العقليات والسلوكيات، تتساكن ولا تتجاور، بل تتعايش مكرهة مع بعضها البعض، بين جدران شفّافة لا تكاد تحجب ما بداخلها، وهي كالمرايا تعكس تفاصيل حياتنا اليومية، بل وتفضح أسرارنا وتحكي لجيراننا على وجهنا الآخر.

إن أول ما يسترعي انتباهنا هو مظهر العمارة الخارجي، فغالبية الشرفات والنوافذ، تطلّ منها دائما، مختلف أصناف الأسرّة المصنّعة من "البونج" خفيف الوزن، متجهة برؤوسها نحو الشمس تماما كنبات عبّاد الشمس، وبجوارها ثياب منشورة كالمقالات، تدلّك أحجامها على الهرم السكاني لساكن الشقّة، وتطل علينا أيضا، أغطية عصرية وتقليدية، منها المستعملة ومنها التي ظلّت مطوية.

إن أي ساكن من هواة الاستيقاظ المبكّر، سيسمع مقدمة السمفونية المذكورة أعلاه، وهي أصوات مصدرها أنابيب توصيل المياه، والتي ما إن يشرع جارنا في غسل جثّثه، حتى تفضحه أصوات مزعجة ناتجة عن مرور الماء عبر الأنابيب، وأصبح الجميع على علم بأوقات اغتساله، و حتى بمراحل الاستحمام ومدة الاغتسال. ونكاد نجزم، على أن جيراننا هم كذلك على علم بمواعيد اغتسالنا وعاداتنا داخل حمام الشقّة. بعد ذلك سيأتيك صوت أخر، هو عبارة عن نقر كإيقاع غير منظّم، وبقليل من التركيز، ستعرف أن صاحبنا يقوم بضرب آلة الحلاقة بحافة "لافابو" أو بصنبور الماء لإزالة ما علق بها من رواسب، أما المقادير فهي مرّة واحدة عند مطلع كل يوم.

بعدها مباشرة، ستأتيك صفارة إنذار حادة، منبعثة من طنجرة الضغط الساكنة في مطبخ الجارة الموظفة، والتي لا تجد متّسعا من الوقت لإعداد وجبة غذاء الغد ليلا، فتعمد إلى طنجرة الضغط، تقعدها في الصباح الباكر على نار ملتهبة، والمقادير في كل صباح مرة كل يوم، باستثناء يومي السبت والأحد وأيام العطل والأعياد.

وبعد تناولهم لوجبة الغداء، ستصلك أصوات مشتركة منبعثة من جميع الجهات، كنتيجة لتصريف المياه المتبقية في أماكن غسل الأواني، لأن ضيق المجاري يستدعي اللجوء القصري إلى تلك الأداة البلاستيكية العجيبة، والتي يعرفها العامة باسم"السرّاحة" شرف الله قدركم، أما المقادير فحسب مكونات الطعام.

وعند الزوال، يبدأ الشطر الموالي من السمفونية فورا، بعد دخول ربة البيت إلى المطبخ. تخرج إلى مكان خاص بالتصبين، أو ما يدعى "بيت الصابون"، فتنتظر معي قليلا، إلى أن تصل إلى مسمعك عبارات تبدأ بألفاظ مؤدبة وموقرة، مثل "حشومة وحرام عليكم"، و" هاد الشئ ماشي معقول"، وهي مقدّمات أحيانا يتلوها السبّ بجارح اللفظ الذي يخدش مسامعنا، كاحتجاج إما على تساقط قطرات الغسيل المبلّل على الثياب المنشورة في الطابق السفلي دون سابق إنذار ودون احترام ولا اعتبار، وإما نتيجة نزول قطرات الماء بعد سقي النباتات، التي أنزلت القطرات على غسيل الجيران، الذي كاد بياضه أن يصبح ناصعا لولا تعرضه لعملية الرش غير المتعمدة، والتي على إثرها يصبح الغسيل في العمارة يغسل مرتين. أما المقادير فعددها عدد النهي عن المنكر.

وعندما يحتل سكون الليل كافة طبقات العمارة، وتستعد للخلود للراحة في غرفتك. ستصلك مباشرة، أصوات متحركة فوق رأسك، لأن زوجة جارنا الذي فوقنا تمشي وفي حوافرها حذاء خشن أو قبقاب أوما شابه ذلك، فتبدأ مرغما في تتبّع مسارها متنقلة من غرفة لأخرى، وكأنها تمشي فوق تصميم بيتك، وقد ترتاح هنيهة من الضجيج، لأنها مشت فوق بساط أو زربية، وها أنت أضفت إلى معلوماتك فكرة عن التجهيز الداخلي للمنزل، بعد أن أصبحت متيقنا بأن الضجيج الأكبر، يأتي من أرضية غرفة النوم لأنها قاحلة ولا زربية فيها، وستتمكن إذاك، من تصنيف الجار داخل السلاليم الإدارية، اعتمادا على تجهيزاته المنزلية.

وأخيرا ستستمع لمقطعين أخيرين من السمفونية العجيبة. الأول، عبارة عن أصوات شبيهة بصوت احتكاك الحديد بعضه ببعضّ، لأن سرير جارنا كسريرنا، محشو بأسلاك لولبية من حديد صدئ، تئن مرات عديدة كلما استبدل النائمون الشق الأيمن بالشق الأيسر أو العكس، بحثا عن جنب الراحة.

والمقطع الليلي الثاني، هو عبارة عن أصوات تخترق الجدران، وصادرة عن شخير جار أو جارة أو هما معا، أما المقادير فلا نلاحظ عند الإشارة كم تكون الساعة، إداك، سيفر النوم من عينيك إلى غاية أن تسمع، أصبح ولله الحمد.

تعليقات
تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة