التسول تجارة لا تبور
تخترق نكبات الدّهر أجسام الأسر القابعة مرغمة في أسفل
الهرم الاجتماعي، فتعمل فيها سيف الحاجة، وتعضّها بأنياب الفقر فتخرج مضطرّة تلك
الأيادي السفلى من ثقوب الجلابيب مستعطفة الأيادي العليا، وتحترف التسول بشتى
الطرق المكتسبة، علّها تظفر بصدقة قد
تكون خبزا أو تينا مجفّفا تترصده من أمام مقبرة أو مخبزة، أو تكون شمعة أو درهما
تجود بهما زائرة لضريح ولي صالح، أو تكون درهما
محتشما في ثنايا الجيوب الصغرى لموظفين خارجين توّا من المحلات التجارية أو
الأبناك أو الشبابيك الأوتوماتيكية.
إن هؤلاء
المتسولين بمختلف أصنافهم، لا تعوزهم الوسائل الكفيلة بلفت الإنتباه إليهم ودغدغة
العواطف لنيل الحاجة. إنمّا الملفت للنظر حقا، هو تنامي حجم الطوابير من المتسولين
من دوي العاهات، بحيث أصبحت الإعاقة عبارة عن علامة تشوير تأمر المارّين بالوقوف أمامها،
بعد أن تم توطيد التحالف بين الإعاقة والتسول، فأصبحنا كما أمسينا نرى المكفوفين
من المتسولين يقعدون القرفصاء أمام المساجد، أو يرتلّون جماعة ما في صدورهم من
آيات بينات، بينما يتولّى أحدهم من حفظة الأدعية مهمّة الدعاء كلّما سمع طنين
النقود النازلة من اليد العليا إلى وسط
الآنية النحاسية المعدّة لذلك، فيما يستمر الآخرون في عملية عد النقود سرّا
في الصدور تفعيلا لربط المسؤولية بالمحاسبة.
وهناك فئة أخرى تراهم يفترشون الأرصفة عند
ملتقى مرور الراجلين عارضين عاهاتهم على العموم، فترى من يمدّ رجلا منتفخة ونتنة
ملتزما الصمت و مطأطأ الرأس، أمام شهادات طبّية مختومة تحمل إحداها صورته الشخصية،
والتي تتكفّل بالنظر باستعطاف إلى وجوه المارين ولسان حالها يقول" شوف بعينك
وحن بقلبك"، وهي عبارة صالحة للتعبير عن حال ذلك المتسول الآخر الفاقد لأطرافه
السفلى، والجالس على مضض فوق قطعة جلدية صمّاء بكماء سوداء، سبق أن كانت فيما مضى
إطارا لعجلة سيارة، تراه وقد شدّها على مؤخرته بإحكام وبقوة دكتاتورية الفقر،
بينما يداه تشدُّ على شبه قفازان من خشب متّسخ يستعين بهما للزحف قرب أحذية
الراجلين من المارة، عسى أن تنظر العين العليا إلى العين السفلى وتجود بصدقة،
لتكون رحمة على الوالدين.
وبناء على
نتائج دراسة الجدوى والمردودية التي يعرف نتائجها المتسولون المحترفون، يتم تصنيف
الأماكن المدرّة للدخل والمحطات الثابتة والمتحركة التي تتميز أساسا بنسبة عالية
من الكثافة الديموغرافية في مجال السير والجولان، ليتم بعد ذلك احتكارها لصالح فئة
يعتاد المارّة على وجودهم ووجوههم في أماكن بعينها أو بدون عينها، حتى نكاد نقول بأن تلك المجالس قد تمّ تحفيظها
بأسمائهم في المحافظة العقارية، وربّما يتواجد من بينهم محترفون يشخّصون تمثيل
العاهات، كطي الرجل أو الذراع أو امتطاء عجلة المعاقين. كما أن هناك صنف آخر يتجول
في الأحياء ويطرق أبواب المنازل رفقة رجل مسنّ لجمع التبرعات من سكان الحي، بحجة
دفن أحد الموتى من المعوزين الذين لا يملكون ثمن الكفن.
أما عن وسائل
النقل العمومي التي يتحايل بعض المتسولين للصعود إليها، فيحدّثك بعضهم بأنه خرج مؤخرا
من السجن الذي دخله مظلوما، ويريد من يساعده لاقتناء تذكرة العودة إلى مدينته. وبعده
يأتي دور ذاك المتسول الصامت، فقوم بتوزيع أوراق صغيرة على الراكبين مكتوبة بخط
اليد، هي عبارة عن قصة قصيرة تبدأ بـ: " أنا شاب أو شابة أعيل أمّي المريضة
بالسرطان وأبي مريض بداء الربو ساعدوني والختم بآيات من القرآن الكريم".
وعندما يرفع الراكب بصره يتفاجئ بمتسول من نوع آخر يقوم بإسقاط المعطف عن كتفه، ثم
يرفع الستار عن أصابع غير مكتملة النمو تنبث من الكتف، لكنها تجيد التقاط الدراهم بقوة،
وغيرها كثير من العاهات التي تخفيها
المعاطف والجلابيب والسراويل في وسائل النقل داخل المدن وخارجها، ولم يسلم من هذه
الظاهرة سوى الترامواي ووسائل النقل البحري والجوي.
ومن الحالات
المثيرة للاستغراب، بضبط الملايين من الدراهم في حوزة المتسولين، سواء كأوراق
مالية أو مجوهرات ذهبية أو ملكية عقارات من مداخيل تم تحصيلها من التسول طويل
الأمد، ومن العمل الدؤوب في مجال مد اليد. بل وفي بعض الحالات، تم اكتشاف نقود
قديمة منتهية الصلاحية في حوزة بعض المتوفين من المتسولين البخلاء، فهذه تجارة
مربحة لا تبور توفر إمكانيات مادية تجعلهم رافضين عمليات إيوائهم في المراكز الاجتماعية، ليس بحجة رداءتها
ومحدودية خدماتها، بل لأنها مهنة من لا مهنة له، يؤطّرها القانون الجنائي بعقوبات
حبسية من شهر إلى سنة في حق كل من له وسائل التعيّش ويمارس التسوّل حتى ولو كان ذا
عاهة أو من يستخدم في التسول أطفالا.
سيظل تفعيل
القانون معلقا في انتظار توفير العيش الكريم لهذه الشريحة من المواطنين الذين يعتدون
على الزمان ومكان، والذين اضطرتهم قسوة الحياة ومرارة الحرمان للانغماس في مذلة
السؤال، وفي زمن يمارس الفقر فينا حروبه الكبيرة والصغيرة وفي مجتمع
يأكل ذاته بطريقة مرضية.
إرسال تعليق