الأضحية الضحية
شحذت الخناجر الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وملئت المواقد
بالفحم، ونزع الصدأ عن " السفافيد" و"الشوّايات"، فدارت الألسن بين ثنايا الأفواه تسترجع مذاق
كبش السنة الماضية بطعم الكباب المشوي. فيما الأنوف تنتظر دخان الرأس المحروق الذي
هيئوا له على قارعة الطريق، كافة اللّوازم من خشب ونوافذ حديدية صدئة، وللدعاية، كتب
أحدهم بقطعة فحم وبخط شبيه بالخط الذي كتب ممنوع البول هنا:" الرأس المشوّط والكرعين
ب 20 درهما".
الأضحية
الضحية في البيت، يراقب الوضع بعينين عسليتين يكاد يصيبهما الحول من شدة الجوع،
لأن العادة عندنا تقتضي عدم تمكينه ليلة الذبح من وجبته الصفراء اليابسة، لتكون
أحشاءه فارغة ولتقل عفونة جوفه، وهو لا يدري ما حوله بعد أن شدّت ساقه و نظّف
مكانه.
بالأمس داخل القطيع، امتدّت إليه يد تتلمّس
عورته، وتفتح فمه عنوة لتحسب أسنانه، ثم تجره من ساق واحدة، ليجد نفسه بين أحضان
راكب خلفي لدراجة نارية سيوصله إلى الدّار. لقد أصابه صياح الأطفال بالذعر، فتنبّه
أنه قد وصل وأمامه مراسيم طفولية، يشارك فيها جمع غفير من أطفال الحي، أمام أعناق
تكاد تسقط من النوافذ.
نطق الضيف
ب "باع" فعلم الجيران أن البيت المجاور قد "عيّد" هذا العام
بكبش صوته أعلى من كبش السنة الماضية، فأصبح له اليوم إسمان، "مبارك
ومسعود"، فأطلق "باع" مثنى وثلاث ورباع في "بوس الدار" أي وسط الدار، بينما
وليّ أمره يستريح استراحة المحارب، لايكاد يصدّق بأن ضمير الغائب في كلمة
"باع" يعود عليه هو نفسه، لأنه في
حقيقة الأمر، باع ما خفّ وزنه وغلا
ثمنه من متاع الدار، لأجل شراء الخروف بعد إلحاح من الصغار ومن "مولات
الدار".
بعد أن
مرّ يوم نحر الأضحية بمشقته على النساء، وبعد أن فرغ أطفال الحي من شواء
الرؤوس والحوافر، وبعد الشبع من اللحم المشوي في (القطبان)، علقت جثة الخروف عارية
كأنها مشنوقة أمام نظرات ربة البيت، وبعد أن ابتعدت أصوات من الشارع كانت تطالب
بالكنز الصوفي الذي هو (هيدورة العيد)، أصبح من الواجب عليها توزّيع حصص الوجبات
من اللّحم بالتساوي على باقي أيام الأسابيع المقبلة، مع الحرص كل الحرص على إقحام
ما تيسّر من أصناف القطاني كالعدس واللوبيا والفول، وكذلك السردين والدجاج أو الديك الرومي، وتوزيعها ما بين وجبات
اللحم لتمديد مدة استهلاك لحم الغنم، والعمل على ألاّ يضيع شيء من الكبش المعلوم،
فرأسه أرسل على استعجال لأبناء الحي ليشوى حتى تأكل النار جلد الخدود والشفاه إلى
حدّ الابتسام، ويمكن الإحتفاظ بالرأس إلى يوم سيصبح فيه وجبة من لحم الوجه والخدود
واللّسان الذي كان يقول "باع" تتربّص بها الأنامل من كل جانب، وتحاول
إسقاطها من فوق قمة قصعة الكسكس بالرأس والحمص.
لا شئ
يضيع، مخّ الخروف المتوفّى في العيد، يعدّ منه طبق صغير لذيذ بالثوم
والزيت البلدي والتوابل، وحتى القرون التي ناطحت رؤوس الخرفان في البراري والجبال والاسطبلات،
فيمكنها أن تعود لمناطحة شعور الأمهات بلطف على شكل أسنان المشط. بعد الرأس يأتي
الدور على الجهازين الهضمي والتنفسي، فموعدهما مساء يوم العيد، فرغم أن غسل
( الكرشة) يعتبر عملا بطوليا، تتقزّز منه أنوف الفتيات، نظرا لرائحتها الكريهة
التي تجعل ( الدوارة) وكأنها غير صالحة للإستهلاك البشري، إلا أن الغسل الجيّد
بالماء الساخن، وإضافة بهارات متعددة منها الكمّون ومسحوق القزبر وتوابل أخرى يخطئها
الحساب، يجعل هذه الوجبة الدسمة تستحق حمل لقب "التقلية".
أما الرقبة
وما أدراك ما الرقبة فلها يوم ينتظر، وهي المعوّل عليها في ما نسمّيه عادة
ب"المعسّل" أو "المروزية"، التي هي طبق من لحم الرقبة محلّى
بالسكر يجود به الدهر في كل عام مرة، وكالعادة سترتاح (مولات الدار) من التفكير في
وجبة أحد الأيام، لأنها ستحضّر قصعة الكسكس بالكتف اليمنى للأضحية، لكونها تعرف من
أين تؤكل الكتف، كل ذلك الاجتهاد من ربة البيت، هو من أجل ترتيب وتنويع أطباق الأسابيع
حتى يقترب موعد نهاية الشهر.
طبعا لن تقف
ربة البيت عند مستوى الأحشاء الداخلية، بل ستنتقل إلى الأعضاء التي كان يقف عليها
(الحولي) وهي القوائم أو الحوافر الأربعة أو "الكرعين"، فموعدهم مع
المرق والحمّص في يوم من الأيام، أمّا ما بقي من الخروف من قطع مبعثرة ومخلفات
اللحم والجلد والشحوم، فستدخله ربة البيت في فوهة أفقية لآلة منزلية يدوية وسنوية،
تستخدم لفرم وتقطيع اللحم، ليصبح كفتة أو كبابا يضاف إليها الملح والثوم. ولكي يتّم
حفظها من التلف، سيتم نشرها كل يوم تحت أشعة الشمس فوق سطح المنزل، فتبدو بجوار
الغسيل كأمعاء غليظة مشدودة بإحكام من الجانبين وهي ما نسميه ب"البوبانيط"،
الذي تسيل له لعاب قطط السطوح.
إن ما
تبقّى من المتبقّي
من شرائح اللحم، سيصبح إن شاء الله قدّيدا أو لحما مجففا بعد تعريضه لأشعة الشمس، ليحتفظ به إلى حين قدوم ليلة عاشوراء،
حيث تعوّدت الأسر المغربية على الالتفاف حول مائدة الكسكس بالقدّيد المملّح، على شكل (كرداس) أو(ديّالة).
وإذا أخذنا بعين أو أذن الاعتبار تعاقب الليل والنهار على أكل اللحم الغنمي، فسيصبح
طبعا كافة أفراد الأسرة من أكلة اللحوم، وسوف يعرقون عرقا له نكهة خروفية،
ويتحادثون فيما بينهم بجمل يطغى عليها فعل باع، مع الاستعداد للنّطح أثناء
المشادّات الكلامية.
عيدكم
مبارك سعيد وتحية نضالية للمرأة المغربية.
إرسال تعليق