أطفالنا ما بين الحقوق والحقائق
ما أكثر المشاهد اليومية في مدننا العربية والتي تشخص لنا بعنف، العديد من تجليّات معاناة الطفل، في غياب صارخ لحقوق وردت على شكل بنود قانونية ملزمة، وتوصيات دولية تحتضنها برفق عدة اتفاقيات، للعناية أكثر بظروف حياة الطفل، لتمكينه من النمو السليم جسمانيا وعقليا وخلقيا وروحيا واجتماعيا، مع مراعاة متطلباته البيولوجية والنفسية، حتى يستطيع أن يتعايش مع بدنه ونفسه وأقرانه.
حقوق مكتوبة وموصوفة بوصف قابل للقياس بالمليمتر، نذكر منها بدون تفصيل واجب الرعاية الكافية قبل الميلاد وبعده، توفير العيش في جو من الحرية والكرامة، الحق في التغذية والسكن، الترفيه والخدمات الطبية، الحق في التعلّم ومنع الاستغلال وتجنب القسوة والعنف والإهمال، وغيرها من الحقوق التي تكاثرت و تناسلت لدرجة جعلت الانفعال ينتشر بين الأجنّة في الأرحام، لمجرد سماع صوت أمهاتهم وهمس آبائهم، أثناء قراءة القائمة الطويلة لحقوق الصغار، التي ستكون في انتظارهم عند أول صرخة مولود أصغر في حياة أكبر.
إن مجرد إخراج أنوفنا فوق محتويات هذه النصوص القانونية، تتضح لدينا الرؤيا أكثر، عند قياس التنزيل على أرض الواقع، فنجد أن الاستحالة أصبحت إقامة محروسة بداخلها حقوق للطفل، كأنها قاصرة تلزمها دور للحضانة، مما عجّل بغياب التفعيل الحقيقي لهذه الحقوق، فأخرج لنا الواقع يوميا حلقات من مسلسل طفولة يضطهدها النظام الاجتماعي، فيسلبها الفرح و الشغب الطفولي، فتضيق بها الدنيا بما رحبت، ولن تراها إلا مقرفصة أمام نسيج خيوط مشدودة كالأوتار، بينما الأنامل الرقيقة تلفّ وتقطع عقد الصوف الملوّن داخل معامل الزرابي أو ما يسميه العامة (ليسي للا مَدْرة). أو يأتيك خبرها أو يحضرك منظرها وهي منظِّفة مضطهدة داخل البيوت، أو حاضنة للأولاد، هي في أمس الحاجة لمن يحضنها، أو( صباّنة ) لم تبلغ المحيض تعمل كغسّالة آدمية، تعاني الأمرّين أمام حجم ركام الملابس المتسخة، و الأمتار المربعة والمستطيلة من الزرابي المغربية، التي تشهق لرؤيتها أقوى الغسّالات الكهربائية.
وقد ترى هذه الطفولة تتعلّم فن خفة اليد في مدارس تلقين مبادئ رياضة الأصابع، لتأهيلهم قصد ولوج عالم النشل أو السرقة الموصوفة أو الخارجة عن نطاق الوصف، أو طفولة أخرى متسكعة في الطرقات، تتسوّل وهي في شبه غيبوبة من شدة استنشاق المواد الكيماوية، و أطفال آخرين من صنف المشاة، يتأبطون صناديق ورقية هي في الأصل علب للسجائر، يطوفون بين الشوارع طوال النهار لبيع السجائر بالتقسيط المريح، فيما آخرون يحملون مثلهم صناديق خشبية هذه المرة فوقها أثار قدم بشرية، لأجل تلميع الأحذية غير الرياضية على الأرصفة وتحت طاولات المقاهي.
وفي الليل، تراهم يطردون القطط من صناديق القمامة ليتمكّنوا من جمع بقايا الطعام والخبز اليابس، والقنينات الزجاجية والبلاستيكية، وكل ما خف وزنه وبخس ثمنه، ثم يفترشون الرطوبة في انتظار الصباح المبكر، ليبدأ النبش من جديد في محتويات المزابل الحضرية.
إنهم ضحايا متخرّجون من ظروف اجتماعية مزرية، أفرزتها سلبيات عدم التمدرس والانقطاع المبكّر عن الدراسة، أو الطلاق وتزايد حجم الهجرة القروية، و الزيادة التصاعدية في تفريخ الغير مرغوب فيهم اقتصاديا داخل الأسر المعوزة، ناهيك عن نتائج الوفيات المبكرة لأرباب وربّات الأسر المعيلة لما فوق الستة نفوس، وغيرها من نكبات الدهر التي تعصف باستقرار الأسر، وتنعكس سلبا على حياة الطفولة في حاضرها ومستقبلها، إضافة إلى فشل الخيارات السياسية التي لم تقوى على توفير الحاجيات الأساسية، بالتغطيات الاجتماعية اللازمة، في مجتمع لا زال يدفع بالأيدي عجلة النمو ونحن في القرن الواحد والعشرين.
إرسال تعليق