الحروف الناطقة
الخط الأحمر على الهامش ينظر إلى تلك المربعات الصغيرة المتراصة، وينتظر أن تولد من جوف القلم حروف متراصة، ليمتلئ بها فراغ السطر الموالي في تركيبة أفقية تجمع بين الفكرة والعبارة.
إن الحروف المتساكنة بينها قد تشد بعضها بعضا رغم الفواصل والعلامات، وقد تتفرق فينفرط عقد السرد، فهي إما ممتلئة أو معتلة أو هزيلة، فمنها ما يتبخر بمجرد ملامسته للورق، فلا عين رأت ولا أذن سمعت، ومنها أيضا ما يتدفق كالسيل، حتى إذا ما اكتظ السطر بها تدلت الحروف إلى السطر الموالي في انحدار عمودي، فتمر معظم الحروف الأبجدية بتلك المساحات الفاصلة بين السطر والآخر، وبمرورها هذا غالبا ما تترك الحروف بعضا منها كبقايا ورواسب.
كل هذه الأجزاء المتساقطة، ما فتئت تتراكم وتتجمع في نسق متكامل غير منظور للعيان، فلا يستطيع إلا من له ملكة قراءة ما بين السطور أن يقرأ ما لم يكتب، وأن يتعرف على الضمير الغائب، وإذاك يصبح المبني للمجهول معروفا، وتزول إشكالية تقديره هو أو هي، فلا حاجة لنا إلى ترديد إليك أعني يا جارة، ولسنا في حاجة إلى استدعاء الحروف الهجائية.
لا أظن أن الهجاء محبوب من الجميع، ومع ذلك فإننا نحب الحروف الهجائية في لغتنا العربية، والتي يترأسها حرف الألف بدون تصويت ولا انتخاب ديمقراطي ولا منافسة شريفة، وبدون أن يكون هو الوارث الشرعي الذي خلف والده على عرش مملكة الحروف والكلمات، ومع ذلك اكتسب شرعية الريّادة على أقرانه في الترتيب.
يملك هذا الزعيم الأبجدي خصائص عجيبة نذكر منها كوننا نكتبه واقفا كالعمود منذ الأزل، كما أنه اشتهر باعتدائه المتكرر وغير المبرر على الهمزة، فيجبرها أحيانا على الجلوس فوق رأسه كالتاج، وقد يضعها تحته أحيانا أخرى، كما يسمح لها بالنزول أحيانا لنكتبها في وسط وآخر الكلمة ركوبا فوق الياء أو على الواو، وإما نجعلها متطرفة تتمدد بحرية فوق السطر.
وهذه الهمزة، لها عندنا مدلول فريد من نوعه لأنها تستحوذ على عقول وقلوب العديد من المغاربة، فهي عبارة نستعملها في الدارجة، للدلالة عن صفقة رابحة وفرصة مربحة لا يجب تركها لأي أحد، وكما لاحظتم فإن أغلب الكلمات السابق ذكرها في آخرها تاء مربوطة، وهي في عرف اللغويين أصلها هاء تعلوها نقطتان، كما أن الهمزة في أول الكلمة، إما أن تكون همزة وصل وإما همزة قطع (صلة الرحم) مع أشقائها وشقيقاتها.
إن الكتابة ما بين السطور، قد تغذي الذاكرة وتعتدي على الزمان والمكان، والحروف المستوية تلد الأفكار الجادة والمنحرفة والمسلحة والسياسية، وهذه الأخيرة تلبس جلباب الاستبداد، وتحضر بقوة أثناء الاجتماعات، فتدخل مثنى وثلاث ورباع وعلى اختلاف أعمارها وألوانها وأحجامها، سواء بالقفز أو الهرولة، للظفر بجلسة ليست مريحة على أطراف الألسن المبللة الحاضرة في الاجتماع، والتي انتهت على التو من ملامسة تضاريس ونتوءات الواجهة الخلفية لأسنان ملوثة بأعقاب السجائر المستوردة.
بعد الاستئذان وإعطاء الأسبقية لمن على اليمين، قذف كل لسان بالفكرة العالقة على طرفه، وانتظر الجميع حتى تجمعت فوق الطاولة، كومة من الأفكار والشعارات التي نراها تتحرك في كشكول تتداخل فيه الأحجام بالألوان.
بدأ التنافس الحاد بين الأفكار ليبلغ حد الصراع والاقتتال فيما بينها، وذلك لأجل الفوز بمكان هادئ داخل البطين الأيمن لقلب من سيوقع المحضر. في بداية الشوط الأول من التنافس، وأمام مرأى ومسمع الحاضرين والحاضرات، قام القلم الأحمر بجرة منه كالممحاة، فنظف الطاولة من بقايا الأفكار الشبه ميتة، والتي لا يخطئها العد، بحجة أنها من صنف الأفكار التي لا زالت في طور الحضانة، ورغم إصابتها بالمداد الأحمر إصابات مميتة، ظلت فرائصها ترتعد وتتحرك إلى حين اشتداد الصراع في الشوط الثاني بين الحديث والقديم، وبين المغلوبة على أمرها ومضارعها وماضيها ومستقبلها، وبين الأفكار من ذات اليمين وبين الوسيطة والمتطرفة، وبين المقتبسة والأصلية والمتردية والنطيحة وما أكل الدهر وعاف الذوق، لتأتي على معظمها الضربة القاضية بجرة القلم الأحمر.
لم تعد هناك حاجة إلى الأشواط الإضافية ما دام الصراع قد حسم، وأصبح الميدان فوق الطاولة خاليا إلا من الفكرة المسلحة. ظلت تحملق في عيون الحاضرين بدون خجل، والذين ما إن هبوا لتهنئتها على الفوز العنيف، حتى توجهت نحو من سيوقع على المحضر، وقد تدلت من حزامها سلاسل وأصفاد وأسلحة بيضاء وسوداء، أدت التحية العسكرية، ثم نطقت بجمل وكلمات لها رائحة السلطة، وراحت تشد نواتها إلى وسطها، إذاك وقف الحاضرون تباعا وقفة رجل واحد، وبشدة قوية على فروة شعر كل رأس، فتح الحاضرون النصف الأعلى من جماجمهم، وامتدت أياديهم نحو الفكرة الغالبة كمن يبسط يده ابتغاء صدقة، عندها انشطرت الفكرة المسلحة بعدما تصدعت وتضاعفت، وبدأت نسخ منها تقفز لتستقر داخل الرؤوس الخاضعة.
لقد أصبحت رؤوس الحاضرين الآن معبئة في نهاية الاجتماع بالفكرة المسلحة، وأمست تحتضنها برفق، في انتظار عمليات التطبيع والتفريخ واستنساخ الواقع المرير.
في ظل سوء تفاهم الفكر مع نفسه، سنظل نبحث عن الترميز في كل مكان، وسنحاول أن نعتصر موقفا أثناء كتابة وقراءة الواقع، مع تقديم عربون حسن النية.
إرسال تعليق