الفكرة السيّاسية المسلّحة.
فتح باب
المناقشة بعد أن تمّ تكسيره من الخارج، فدخلت الأفكار السياسية مثنى وثلاث ورباع
على اختلاف أعمارها وألوانها وأحجامها مسرعة بالقفز أحيانا وبالهرولة أحيانا أخرى،
وذلك من أجل الظفر والفوز بقعدة مريحة على أطراف الألسن الحمراء، وهي التي انتهت
على التو من ملامسة تضاريس ونتوءات الواجهة الخلفية لأسنان ملوثة بأعقاب السجائر
المهاجرة.
بعد الاستئذان
وإعطاء الأسبقية لثاء التأنيث السياسية ولمن يجلس على اليمين، قذف كل لسان بالفكرة
العالقة على طرفه قبل أن يرجع إلى فم صاحبه، فتجمّعت
فوق الطاولة كومة هلامية من الأفكار المبعثرة، والشعارات الرنّانة، التي تبدو
للناظرين وكأنها حية تتحرك في كشكول تتداخل فيه الرموز بالأحجام وبالألوان.
بدأ التنافس الحاد بينها واشتدّ الصراع والاقتتال
فوق الطاولة حتى سالت دماء المرجعيات، وتكسّرت رموز الشعارات الشرقية، وتبعثرت
الإيديولوجيات الغربية، كل ذلك لأجل الفوز بمكان هادئ داخل البطين الأيمن لقلب من
سيوقع على المحضر.
عند نهاية الشوط الأول من التنافس، حضر القلم
بلونيه الأحمر والأخضر، فرسم فوق الطاولة نجمة خماسية، ثم قام بدفع بقايا وأشلاء الأفكار
الشبه ميتة والتي لا يخطئها العد إلى سلة المهملات. ورغم إصابتها بجروح مميتة من
طرف المداد الأحمر، ظلت فرائصها ترتعد وتتحرك، لكنها لم تتمكّن من متابعة أطوار
الشوط الثاني، الذي اشتد فيه الصراع بين الحديث والقديم، وبين الأفكار المغلوبة
على أمرها ومضارعها وماضيها ومستقبلها، وبين الأفكار من ذات اليمين، وبين الوسيطة
والمتطرفة، في مواجهة الأفكار المقتبسة والأصلية والمتردية والنطيحة وما أكل الدهر
وعافته الديمقراطيات.
في لحظة
مفاجئة، جاءت الضربة القاضية من جرة أخرى نهائية من رأس القلم الأحمر، أخرجتها كلّها
من مثلثات النجمة الخماسية، فلم تعد هناك حاجة إلى الأشواط الإضافية لمعرفة الفائز من بين الأفكار السياسية، ما دام
الصراع قد حسم، وأصبح الميدان فوق طاولة الصراع خاليا من المنافسة والمعارضة. إنها
فكرة واحدة لا سواها، ظلت لوحدها تحملق في عيون جميع الحاضرات والحاضرين، فرحة
بهذا الفوز العنيف. لقد كانت تلبس شبكة زرقاء عنكبوتية وقد تدلّت من حزامها سلاسل
افتراضية، ومفاتيح لمواقع إلكترونية، وأقنعة سوداء خاصة بالجيوش الفايسبوكية.
قامت الفكرة
المنتصرة من مكانها، وتوجهت نحو من سيوقّع على محضر تسليم السلط، فأدّت التحيتين
العسكرية والمدنية، ثم نطقت بجمل وكلمات لها رائحة قوية، وراحت تشدّ نواتها إلى
وسطها، إذّاك، جاء صوت من هاتف بعيد، يأمر كل
الحاضرين بالوقوف، فوقفوا تباعا، وبشدّة قويّة على فروة كل رأس، فتح الحاضرون
باليد اليمنى النصف الأعلى من جماجمهم، وامتدت اليد اليسرى لكل منهم نحو الفكرة الغالبة كمن
يبسط يده ابتغاء الصدقة، عندها انشطرت الفكرة المسلحة بعدما تصدّعت وتضاعفت كالخلية،
فبدأت عملية النسخ واللصق بسرعة، لتستقر الفكرة وأخواتها داخل الرؤوس التي أصبحت الآن وفي
نهاية الاجتماع، تحتضنها برفق، في انتظار عمليات التفريخ الباطني، واستنساخ الواقع
المرير.
أمرتهم بالانتشار
بعد الانصراف والخروج مثنى في صف حلزوني،
أمرتهم بالعمل كتجمعات افتراضية، وكتكتلات فردية، ليعتلوا المنابر الإعلامية ومنصات
الدردشة الإلكترونية، وليقدّموا الوجبات التحليلية المجانية، ويسوّقوا الأفكار المليئة
بالسعرات السياسية الحرارية، حتى تهرب العقول من رؤوس الآخرين، الذين اعتادوا تقبيل الأيادي التي تصفعهم، ولعق
الأحذية التي تركلهم، حتى أصبحوا عبارة عن كائنات امتثالية لا غير، أفسدت علينا وجودنا، وجعلتنا لا نفكر
في المفقود حتى لا نفقد الموجود.
انتهى لكلام، وسنظل نحترق بالأسئلة عن الحقيقة التي اشتقنا إليها اشتياق الصائم لآذان المغرب، رغم أن من يحاول أن يمسك الشمعة من شعلتها يحرق يده، وأن الأسماك تصل إلى حتفها من خلال أفواهها.
إرسال تعليق